بغداد – ناس
جددت وزيرة الثقافة الإماراتية نورة محمد الكعبي التزام بلادها بالشراكة مع العراق، وذلك خلال حديثها عن تطورات إعادة إعمار الجامع النوري في محافظة نينوى.
وفي مقال للوزيرة الكعبي نشرته عبر "ناس" (21 حزيران 2020) حول الذكرى الثالثة لتدمير الجامع الأثري، اعتبرت وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة بدولة الإمارات العربية المتحدة، دور بلادها في إعادة إعمار الجامع، "واجباً تفرضه قيم الإمارات وعلاقاتها المتجذرة مع أشقائها العراقيين".
وأكدت الكعبي أن "المشروع سيتم تنفيذه وفق أعلى معايير ترميم المواقع الأثرية، حتى تعلو منارة الحدباء مرة أخرى تزين سماء مدينة الموصل".
وأدناه نص المقال:
قناة "ناس" على تلكرام.. آخر تحديثاتنا أولاً بأول
"روح الموصل
بقلم: نورة بنت محمد الكعبي *
قبل ثلاث سنوات كان العالم على موعد مع أكبر عملية تدمير ممنهجة للتراث الثقافي الإنساني في مدينة الموصل العراقية؛ إحدى أقدم المدن في العالم، كانت لآلاف السنين جسراً يصل الشرق بالغرب والشمال والجنوب، استوطنها أشخاص من خلفيات دينية وعرقية متنوعة... الموصل صلة الوصل، وعاصمة الصناعات الإبداعية قبل آلآف السنين، فقد كان السجاد والرسومات والزخارف والمشغولات النحاسية تستقطب التجار من الهند والصين، وكانت أسواقها تشهد حركة ثقافية نشطة، واشتهرت منذ القدم بتصاميمها المعمارية وفنونها الموسيقية، ونشرت إبداعاتها في مجال النظم والتلحين إلى مدن عربية كالقاهرة وحلب ودمشق، فقد تميزت المقامات الموصلية عن غيرها، وامتزجت الموشحات بالنسيج المجتمعي المتعدد حتى قيل إنها تأثرت بموسيقى الكنيسة السريانية، وقام الموسيقي الموصلي الأشهر زرياب بإسهامات بارزة في الموسيقى العربية والشرقية، فهو من نقل الغناء والفن الموسيقي إلى الأندلس، وينسب إليه الفضل في تطور الايقاع والعود والعزف والشعر والارتقاء بالذوق العام، وهو أول عميد لمعهد موسيقي يقام في الأندلس... .هذه روح الموصل وهويتها منذ آلاف السنين... وجه الحضارة المشرق منذ فجر التاريخ.... قوة إبداعها في تعدد أفكارها ودياناتها.
تضم المدينة القديمة في الموصل بين أزقتها مئات المعالم التاريخية، تشهد على عدد من العصور والحضارات والثقافات والديانات من أشهرها الجامع النوري ومنارته الحدباء والذي كان قبل ثلاث سنوات هدفاً لتنظيم داعش الإرهابي، والذي دمره وحوله إلى ركام، فهبت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" لإنعاش الموصل من خلال مبادرة "إحياء روح الموصل"، وكانت دولة الإمارات المساهم الأول بإعادة إعمار الجامع النوري ومنارته الحدباء والذي ارتبط روحياً بالموصليين وكان هذا المشروع الوحيد الذي يبدأ فعلياً على أرض الواقع بعد دحر عناصر داعش من المدينة، لإيماننا العميق بأن إعادة بناء معالم الموصل يُعيد للعراق مكانته التاريخية ويسهم في بناء أجيال عربية تنبذ الحروب وتؤمن بالتعددية والاعتدال.
تزامن إطلاق مشروع إعادة إعمار الجامع النوري مع احتفاء دولة الإمارات في 2018 بمئوية الشيخ زايد، ليكون خيرَ ترجمةٍ لحرصنا على إرث المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ودعم جهود الأشقاء العراقيين في التنمية والاستقرار ودفعة عجلة الإعمار خصوصاً المعالم التراثية التاريخية التي تعرضت لتدمير على أيدي أعداء التاريخ انطلاقاً من قيمنا الثابتة في نشر قيم الإيجابية والوسطية والانفتاح ومحاربة التعصب والتطرّف الفكري والديني والثقافي. يوجه مشروع إعادة إعمار الجامع النوري رسالة قوية مفعمة بالأمل والصمود، مفادها أن المجتمع المتسامح، المتلاحم هو المستقبل الذي يستحقه المجتمع الموصلي.
لا يقتصر إعادة إعمار الجامع النوري ومنارته الحدباء على إعادة بناء المواقع التراثية وحسب، بل يتعداه إلى الاستثمار في الشباب الموصلي وتمكينهم بوصفهم أطرافاً فاعلة في معادلة التغيير، إذ يوفر المشروع 1000 فرصة تدريبية ووظيفة للشباب، ويسهم في خلق فرص اقتصادية وإمكانات داعمة للسياحة الثقافية بما تعكسه من استدامة للتنمية وتطور وازدهار لمستقبل العراق. استثمرت الإمارات بالتعاون مع شركائها الدوليين مثل اليونسكو والإيكروم في إطلاق برنامج تدريبي متكامل لبناء قدرات الشباب الموصلي في مجالات العمارة والهندسة والتخطيط الحضري والحرف اليدوية. يمثل هذا المشروع نموذجاً حياً لدور الإمارات في صون التراث العالمي والحفاظ على الموارد الثقافية التي تضمن حق الأجيال المقبلة في المواقع الأثرية والتراثية.
انتهت قبل أشهر المرحلة الأولى من إعادة إعمار الجامع النوري ومنارته الحدباء حسب الجدول الزمني المتفق عليه مع اللجنة التوجيهية التي تقود المشروع والتي شملت إزالة الألغام الأرضية من الموقع، وتثبيت ما تبقى من الهيكل للمئذنة، وإزالة الأنقاض بالكامل من محيط الجامع والمنارة، وثُبتت قبة الجامع بوضع أشرطة حول قاعدتها ودعاماتها... مرحلة مهمة تعطي الأمل للمجتمع الموصلي بعودة الحياة إلى طبيعتها بعد ما شهدته المدينة من إرهاب ودمار بما يمثله الجامع النوري من رمزية مهمة في نفوس العراقيين.
التراث ركن رئيس من أركان الهوية الحضارية، تتوارثها الأجيال وتحفظ مكانها في التاريخ الإنساني، وتراثنا العربي عميق الجذور، أصيل المنبع، رفيع المكانة. هو مصدر الثقافة، وأهم الأصول، وبوابتنا نحو المستقبل، فالأمة التي لا تدرك تاريخها لا تستطيع صنع مستقبلها.. مشاركة الإمارات في إعادة إعمار مواقع الموصل، واجب إنساني وحضاري، فرضته قيم الإمارات، وعلاقتها المتجذرة مع أشقائها العراقيين، ونحن ملتزمون بالعمل مع شركائنا على إكمال المشروع وفق أعلى معايير ترميم المواقع الأثرية، حتى تعلو منارة الحدباء مرة أخرى تزين سماء مدينة الموصل.